في سن الـ 36 لا يزال لوكا مودريتش لاعبا غير قابل للنقاش، لقد اكتسح منافسة الشباب بشغف الأطفال، مدافعا عن موقعه في الملعب وكأنه لم يبدأ إلا الساعة. عندما يلعب مودريتش لا شيء يصرف انتباهه، ما زال أحد أساتذة تلك اللعبة بسبب قدرته اللا نهائية على الإبداع، وسرعة بديهته التي تُمكِّنه من حل أعقد الوضعيات في جميع أنحاء الملعب كما لو كان حاسوبا.
أصبح للكرواتي مكانة كبيرة في مدريد، بعد موقفه اللافت في تجديد عقده الأخير، ورغبته في البقاء بأي ثمن، على عكس سيرخيو راموس. يُمثِّل مودريتش النموذج الأمثل لقائد ريال مدريد داخل وخارج الملعب، على الأقل بالنسبة لخورخي فالدانو، الذي تحدث عنه قائلا:
“يدعو مودريتش لطريقة أخرى للشعور باللعبة. يصبح اللاعبون أقوى وأفضل كل يوم، يتم رسم المباريات على السبورة، ويتم تحليل المنافسين حتى في أكثر التفاصيل تفاهة، مع أرقام وإحصائيات لا نهاية لها. لكن لا شيء من هذا مهم إذا كنت لا تلعب كرة القدم بمشاعر لوكا مودريتش”. (1)
صديق الجميع
يؤمن فالدانو أن الرجل الصغير ذا المظهر الهش ما زال يحرث الملعب وينقل دماء جديدة بقوة شخصيته، حيث يخلو أداؤه من أي استعراض، وتطمح كرته الهادئة إلى المنفعة وإمداد الفريق بما يحتاج؛ يساعد الجميع بالكرة، وبدونها يعرف كيف يضحي بذكاء ثم يترك الملعب منهكا، غارقا في عرقه، دافعا الجميع لمعانقته كبطل قومي.
من الصعب تحليل أداء الكرواتي لتمتُّعه بالعديد من الخصائص التي نادرا ما تتوافر مجتمعة في لاعب واحد. يمدح الجميع مودريتش عادة لرؤيته الثاقبة وذكائه الحاد، لكن ما نريد الإشارة إليه هو قدرته الاستثنائية على أن يكون صديق الجميع في وقت واحد، بسبب قدرته الكبيرة على التعاون وقابليته للتلوُّن وفهم لعبة العلاقات والأدوار التي لا تجعله ينتمي إلى مركز أو موقع بعينه ولكن إلى ملعب كرة القدم.

ذلك ما توضِّحه الخرائط الحرارية لمودريتش في مباريات دوري الأبطال هذا الموسم ضد مختلف الخصوم، لا يكترث الكرواتي إذا ما لعب على اليسار أو اليمين، بالقرب من بنزيما أم أمام ميليتاو وألابا، على الأغلب هو لا يهتم إطلاقا بماهية الخصم وما يملك من لاعبين، ما يهمه حقا هو فعل ما يجيده جيدا في الملعب؛ التعاون ومساعدة الجميع، ولا يمكننا اعتبار ذلك نتاج تكوين أكاديمي مُحكم أو تأثير مدرب قدير، لأن المتابع الجيد لمودريتش يدرك تماما أنه اللاعب نفسه الذي خطف الأنظار في دينامو قبل تجليه الكبير في يورو 2008.
إلى جانب قدراته الإدراكية والتقنية العالية، يكمن تفرد الكرواتي في حدسه الحاد الذي لا يخطئ وذاتيته الطاغية التي لا تلتفت إلى جانب مَن يلعب، سواء كان كريستيانو أو ديان لوفرين. يحل الكرواتي أكثر الوضعيات تعقيدا بذاته، وبحدسه، بذلك الإحساس وتلك الملكة التي اكتسبها هناك في أزقة “زادار” حيث نشأ على التعاون ومرافقة الجميع، وعدم خسارة الكرة مهما كلَّف الأمر، كما لو كانت عهدة باهظة لا يملك ثمن تعويضها!
تقاليد
كان مدريد دائما نادي لاعبين، ومن الواضح أنه ما زال فريق غلاكتيكوس، الفارق أن الغلاكتيكوس الحالي مكوَّن من لاعبين أكثر دهاء، ما زالوا قادرين على التلون وتلبية متطلبات اللعبة، كما أن تراكمات نجاحاتهم المُسجلة في لا وعيهم تساعدهم على الصمود وقهر لحظات الشك، والرجوع من بعيد دائما إذا ما ساءت الأمور.
على عكس فِرَق النخبة في الوقت الحالي، لا يملك مدريد تنظيما مُحكما لأنه لا يملك لاعبين عاديين، ولكن جنرالات لديهم قدرات استثنائية على التصرف بذاتية وقيادة اللحظات، وذلك تحديدا ما يجعل كرة القدم في العاصمة تنتمي إلى اللاعبين، حيث التسليم التام بعلو كعب المواهب على قيود التنظيم، لقدرة اللاعبين الدائمة على إنتاج حلول لربما استعصت على أفضل الكوادر الفنية، ذلك ما يؤمنون به ويُجسِّدونه تماما في سانتياغو بيرنابيو.
تبالغ الجماهير عادة في التعبير بعد الأمسيات الساحرة مثل أمسية سان جيرمان. ما قدَّمه مودريتش في تلك الليلة كان غامرا بالفعل لأن تجلياته كانت حاسمة للعودة بالنتيجة، لكن من وجهة نظر خططية، يُمثِّل ذلك التداخل طقسا من طقوس الفريق في مرحلة التحول الهجومي خاصة ضد الفِرَق الكبيرة، حيث يتم إطلاق العنان للكرواتي المخضرم لتشكيل التنظيم بنفسه وحبك التفاصيل وقيادة المرحلة برُمَّتها مستغلا خصائصه الاستثنائية.

لنعد لحظات إلى الوراء إلى ما قبل التحول الهجومي، عندما يعود مدريد للدفاع بكتلة منخفضة، يتمركز مودريتش عادة في مساحة “المساندة المشتركة” (Mutual assistance zone) بالقرب من مساحة التداخل، غير متداخل ولا بعيد ولكن في موقع يسمح له بقراءة الوضعية وفي الوقت نفسه التأثير عليها؛ يضغط فاسكيز على نيمار بمساندة كامافينغا، بينما يتموقع مودريتش بالقرب من إدريسا غاي ناصبا الفخ للبرازيلي للتمرير لميسي في العمق، حيث مرَّر نيمار الكرة ليعترضها مودريتش سريعا ويبدأ التحول.

يُطبِّق باريس سان جيرمان مبدأ الرقابة الوقائية على فينيسيوس كما هو واضح من خلال تمركز دانيلو، وذلك لقطع الكرة منه في تلك اللحظة ومنعه من قيادة المرتدة، لكن المشكلة هنا كانت في تمركز فيراتي، حيث كان متأخرا عدة خطوات للخلف فلم يستطع الضغط مباشرة على الكرواتي فور خسارة الكرة وسمح له بالتقدم والرؤية وتقييم الموقف واتخاذ القرار الأنسب.

انتُقد فيراتي كثيرا بعدما قفز خطوات لليمين وأفسح مجال المرور لمودريتش، لكن ما لم يلاحظه الكثيرون أن مودريتش هو مَن تلاعب به، عندما رفع رأسه بدهاء كأنه سيُمرِّر لفينيسيوس ثم أكمل الركض بالكرة حيث راوغ الإيطالي بعينه، وفي الوقت نفسه أعطى البرازيلي الإشارة بالتحرك والقطع في المساحة خلف خط الدفاع، والبقية تعرفونها.

أمام برشلونة في مباراة الموسم الماضي، يُمكننا رصد مودريتش دائما بالقرب من موقع الكرة أثناء دفاع الفريق بشكل متأخر، وذلك للحصول دائما على التمريرة الأولى لقيادة التحول الهجومي، كما نلاحظ؛ بينما يملك ميسي الكرة داخل منطقة الجزاء، يحاول مينغيزا الاقتراب من فينيسيوس للدفاع الوقائي، بينما يتمركز فرينكي دي يونغ بالقرب من مودريتش للضغط في حالة خسارة الكرة.

ما أفسد الأمر برُمَّته على برشلونة هو أن مودريتش كان أسرع من أن يتم احتواؤه، لأنه بمجرد حصوله على الكرة لم يحتج إلا إلى لمسة واحدة تجاه المساحة، لكسب الوقت في رفع رأسه وتفقد محيطه لتقييم الموقف وإعطاء الإشارة لفينيسيوس بالتحرك، ثم لمسة ثانية ليضع الكرة أمامه تحضيرا للتمرير، ومن ثم إرسال تمريرة قاتلة بقدمه الضعيفة واضعا بها البرازيلي في مواجهة الحارس بعدما أنهى له كل شيء تقريبا.

التسلسل نفسه يمكننا ملاحظته أمام أتليتكو مدريد، إذ يضغط توني كروس على كوندوغبيا بينما يحرص مودريتش على أن يكون في مساحة مجاورة على مقربة من مساحة التداخل، في موقع يسمح له دائما باستقبال التمريرة الأولى، التي أهداها له كارفخال في تلك اللعبة، بعد اعتراض تمريرة كوندوغبيا باتجاه لودي.

تبرز قدرة لوكا مودريتش التقنية الكبيرة في تلك المواقف، إذ يعرف جيدا كيف يحافظ على الكرة تحت الضغط مع ضمان التقدم، والحفاظ على مسارات تقدم عمودية دائما في عملية المراوغة والاختراق من خلال قدرته الكبيرة على التسارع خاصة في المسافات القصيرة، حيث يستطيع هزيمة أعتى اللاعبين في تلك الوضعيات.
عانى كوكي في محاولة لحاقه بالكرة، على الرغم من سرعته وقوته التي تفوق مودريتش، فإن الكرواتي وصل إلى الكرة قبله، ولم يحتج إلا إلى لمسة واحدة لتخطيه وإسقاطه أرضا، ولمسة أخرى لوضع كوندوغبيا في مهب الرياح وكأنه لم يكن موجودا من الأساس، ثم حل الوضعية وتحويل الموقف جذريا إلى 2 ضد 2 رفقة لوكا يوفيتش.
لو سألنا أنشيلوتي على الخط كيف يمكننا التحول من الوضعية الأولى إلى الأخيرة بتلك السلاسة، ربما يُفرد لنا وابلا من معارفه الخططية العتيقة، مرورا بإرث أريغو ساكي، وشرح الفارق بين عدة أنظمة تكتيكية، إلى تفتيت الخصائص الفردية للاعبي خط وسط الأتليتي لإنتاج حل مناسب، لكن بالنسبة لمودريتش لم يحتج الأمر إلا إلى 3 لمسات، حيث تسمح له خصائصه الفريدة في التعامل مع وضعيات بتلك البساطة الساخرة، التي ربما لا يستطيع شرحها في كلمات، لكن في أعماق عقله الباطن تكمن جميع الإجابات.
الولاء
حينما نتحدث عن مودريتش، يجب أن نتحدث عن الولاء، لأنك إذا كنت صديق الجميع في الملعب، فإن تلك الصداقة لا بد أن تُوجب الولاء، وهو ما يملكه مودريتش تجاه ريال مدريد تماما، حيث لم يستغرق إلا 5 دقائق فقط للموافقة على تجديد عقده الأخير وفقا لشروط النادي والأوضاع الاقتصادية، بعكس آخرين كسيرخيو راموس مثلا. (2)
الأخير ليس مذنبا، لكن ما فعله مودريتش وضعه في مكانة أخرى وجعل الجميع مدينا باحترامه، لسبب بسيط لأنه لم يتاجر سابقا بالولاء للنادي من خلال شعارات رنانة أو منشورات ساخنة، لأن الولاء لا يُشترى بالادعاء ولكن بالثبات عند وجود المغريات، تماما كما رفض مودريتش أموال إنتر ميلان ولم يفكر مرتين بالبقاء في مدريد بشروط تحقق له امتيازات أقل من نظيراتها.
ولعل ذلك هو سبب تقدير فلورنتينو بيريز للكرواتي، فعلى الرغم من تعامله مع مختلف النجوم طوال الـ 20 سنة الماضية، لكنه يملك تجاه مودريتش وبنزيما من التقدير والعاطفة ما لا يملكه لأحد ولا حتى رونالدو وراموس، على الرغم من أن ذلك الثنائي تحديدا قد أضاف رياضيا وتجاريا للنادي ما لم يُضفه غيرهما، لكن “الأنا” الكبيرة لديهم جعلت ولاءهم الأول والأخير لأنفسهم، لذلك لم يحظوا بما حظي به مودريتش وبنزيما عند بيريز.
الأكبر من ذلك أن مودريتش لم يكن من ذلك النوع الذي يروق له تصدُّر المشهد أو إشعال الأجواء دائما في وقت الإنجاز، وذلك يجعله أولى بالتقدير والالتفاف حوله من تلك النماذج المفرّقة، لأنك ببساطة، بغض النظر عن الفريق الذي تشجعه، فإنك ستجد لمودريتش مكانا في قلبك بسهولة، مع كثير من التقدير والاحترام لما يقدمه.
في السادس والعشرين من يونيو/حزيران الماضي، بعد المباراة الدراماتيكية بين كرواتيا وإسبانيا في دور الـ 16 من بطولة اليورو، نشرت صحيفة “الباييس” الإسبانية مقالا بعنوان؛ “دعوا إسبانيا تفوز بدون أن يخسر مودريتش”، وذلك تحديدا هو ما يفرضه مودريتش، حيث يضعك في تلك الحيرة التي تربكك وتجعلك غير قادر على ممارسة مشاعر الانتماء لمنتخب بلادك تماما لأنه يستحوذ على جزء من قلبك شئت أم أبيت. (3)
————————————————————
المصادر
المصدر: وكالات